فاجأنى ابن أخى بطلب غريب ، وهو الذهاب معه للجامعة باعتبارى ولى أمره ، نظراً لغياب والده المسافر للخارج ، حيث إنه قد تسبّب فى مضايقة الأستاذة فى الجامعة ، حيث إنه فى الصف الأول من كلية الآداب قسم التاريخ ، فوجدتُها فرصةً للذهاب إلى نفس المكان الذى تركتُه منذ أحد عشر عاما....ودلفنا إلى الجامعة ، وحانتْ منى التفاتةٌ حزينةٌ إلى نفس الركن الهادئ الذى شهد حبى الأول ، وكيف أصبح ذكرىً حزينةً ، بعد زواج من أحببتُ بطبيبٍ قطف زهرةً ملكاً لغيره عنوةً ، فترك صاحبها غايةً فى الحزن ، ثم انتبهتُ على صوت ابن أخى وهو ينبهنى بأن أحذر فى كلامى مع هذه الأستاذة الجامعية العانس المعقدة ، والتى ترتدى الثياب السوداء دوماً ، ولا تبتسم أبداً ! حتى سُمِح لنا بلقاءها ، وأنا مازلتُ أفكر فى انتقاء الكلمات المناسبة ؛ لتعفو عن ابن أخى المشاغب ، حتى تجمدتُ عند لقياها :
أنتِ...أنتِ منال؟! خطيبة المرحوم...
فدهشتْ لمعرفتى لها ، ثم أشارتْ لابن أخى الصبى بأن ينصرف ، ويعتبر أنها قد عفتْ عنه ، ثم طلبتْ من العامل المخصص لمكتبها بأن لايزعجها بأى زائرٍ ، ثم طلبتْ منى انتظارها لحظاتٍ ، حتى تنهى مكالمةً تليفونيةً ، وهنا انفجرتْ داخلى الذكريات الحزينة ، باعثةً أدخنةً من المرارة والحسرة والألم ...
تذكرتُ عندما كنتُ فى العشرين من عمرى ، وفى الصف الثانى من الجامعة ، أدرس فى قسم اللغة العربية ، حيث طلب منى صديقى الذى يدرس القانون فى كلية الحقوق المجاورة فى نفس جامعة القاهرة بأن أذاكر معه فى جوٍّ هادئٍ فى مكتب المحاماة الذى يملكه أبوه ، حيث إن أباه يحضر إلى المكتب أربع ساعات فقط يومياً من السادسة إلى العاشرة مساءً ...وظللنا نذاكر سوياً هناك ، حتى فُوجِئتُ ذات يوم خريفىٍّ منذرٍ بأمطارٍ رعديةٍ شديدةٍ ، بشابٍ ذى عيون خضراء منكسرةٍ حزينةٍ ، يسألنا ماذا نشرب ، فطلبنا الشاى ، وأما هو فلايتكلم كثيرا ، ولايبتسمُ أبداً ، وبعد أيامٍ ، فوجئتُ به يسألنى عن بعض القواعد النحوية ، حيث فهم من كلامى بأن أدرس اللغة العربية ، فتعجبتُ لقوله وبادرتُه :
بصراحةٍ شكلكَ أكبر منى بأربع سنوات تقريباً ، ومع ذلك تسألنى عن منهج الثانوية؟ !...
فأخبرنى بأنه يدرس الثانوية بصفوفها الثلاثة فى سنةٍ واحدةٍ ، بتشجيعٍ من والد صديقى المحامى ، ومرتْ الأيام ، وأصبحنا أصدقاءً ثلاثةً ، وعرفتُ عنه ذكائه الشديد ، وعشقه للكفاح ، وظروفه الاقتصادية الصعبة ، حيث كان الأول على زملائه فى الإعدادية ، وتوفى أبوه يوم النتيجة ، فضاعتْ فرحته ، ويومها قالتْ له أمه :
يادياب ياابنى أنتَ ولدى الوحيد ورجلى الآن ، ومعاش أبيكَ لن يفى حاجاتنا نحن الخمسة ، أنا وأنتَ وشقيقاتكَ البنات الثلاثة ، ولذلك فلن تستطيع دخول الثانوى العام ، والوصول للجامعة ، ولذلك فليقتصر طريقك على التعليم المتوسط التجارى السهل ؛ لتتوظف به مكان أبيكَ ، ولتعمل الآن فى أى محلٍ ؛ حتى تنهى تلك السنوات الثلاثة من الدراسة ....
وانتهتْ سنوات الدراسة القصيرة ، وتوظّف مكان أبيه فى نفس المحكمة ، نعم وظيفة صغيرة تسمى مُحضَر بحيث يبلغ الناس بموعد المحاكمات ، أو بالضرائب المستحقة ، وخلافه....ثم نجح فى الثانوية بتفوقٍ ، والتحق بأمل حياته ، وهو كلية الحقوق ، وأصبح القضاة فى وظيفته بالمحكمة يشجعونه ، ويعدونه بالحاقه بسلك النيابة بعد التخرج ؛ ليصبح بعد سنواتٍ قاضياً مثلهم ، وهو لايصدق عينه ، بأن أحلامه ستتحقق بعد أربع سنوات فقط من الجد ، وكم كان صعباً عليه أن يذهب لعمله فى المحكمة صباحاً ، ثم يأتى للجامعة ظهراً ، وقد أصبحتُ أنا فى السنة الثالثة ، ثم يذهب لبيته عصراً ليذاكر ، ثم يذهب لمكتب والد صديقى المحامى ، للخدمة به ، حتى مرتْ السنة الأولى من الجامعة ، وأصبح هو فى السنة الثانية ، وأصبحتُ أنا فى السنة الرابعة والآخيرة ، فإذا بفتاةٍ تعجب به اسمها منال ويدق قلبه للحب لأول مرة ، نعم إنه الحب الذى لايعترف بأى مشاغلٍ ، ولايؤجل ظهوره لحين تحسُّن الظروف ، واستمرتْ العلاقة العاطفية قويةً بينهما ، وكانتْ هى فى الصف الأول ، ولكن والدها يصر على تزويجها برجلٍ ثرىٍ ، فطلبتْ منه التقدم لخطبتها ، وكيف وأنه لايملك شيئا ، وفى رقبته أمه وثلاث شقيقات ، فأقنعتُُه بأن نكتتب - نحن زملائه - كلٌّ بما يقدر عليه ؛ لشراء دبلةٍ ذهبيةٍ لها ، ونشترى له هو دبلةً فضيةً ، وقابلنا أباها نحن الأصدقاء الثلاثة ، فرفض فى البداية ، ولكننى أقنعتُه بأن هذا الفتى رجلٌ بمعنى الكلمة ، وإنه سيصبح وكيلاً للنيابة بعد سنتين ، ثم يُرقَّى لقاضى ، فاقتنع أبوها بحجتى ، ومرتْ أيامٌ قليلةٌ من السعادة الآخيرة ، وكلما رأيتُ ابتسامته الحنون ، قال لى متأثراً :
لاتنخدعْ بابتسامتى ياصديقى ، فسيأتى يوم تكتب فيه للناس عن مأساتى ؟
وأتعجبُ من منطقه ، حتى مرضتْ أخته الكبيرة بضيقٍ فى شرايين القلب ، مما استلزم معه إجراء عمليةٍ جراحيةٍ سريعةٍ ، لكنها ستتكلف بعض المئات من الجنيهات ، فوقف عاجزاً لايدرى مايفعله ، حتى ذهب ذات صباح لممارسة عمله بإخطار صاحب محل كبير بإغلاق المحل نظراً لعدم تسديده الضرائب المستحقة ، فقال له صاحب المحل بأن يقول بأنه لم يره ، وسيكافئه على ذلك بمائتين من الجنيهات ، وإنه سيعطيه مائة جنيه الآن ، وبعد ساعتين عليه أن يمر عليه ؛ ليحصل على المائة الأخرى ، وظلتْ نفسه تصارعه ، وكيف يقبل الرشوة ؟ ، ولكنه يحتاج النقود الآن لإجراء العملية لأخته ، فانتصر عليه الشيطان !!! وأسرع للمستشفى ؛ ليدفع مقدم الأتعاب ، وحضر بعد ساعتين لصاحب المحل ، الذى أعطاه المائة الأخرى ، وما إن أمسك الورقة النقدية ، حتى فؤجئ برجال الشرطة يضعون فى يديه القيود الحديدية ، بناءً على بلاغ صاحب المحل ، بأنه يتهم الموظف الحكومى بالرشوة ، مؤكداً أنه رجلٌ شريفٌ محبٌ ومخلصٌ لبلاده ، وسيدفع كل ماعليه من ضرائب عندما تتحسن ظروفه ، ودخل السجن !!! وتبخرتْ كل أحلامه البعيدة ، ففصلتْه المحكمة من وظيفته ، وفصلتْه الجامعة من الكلية ، وأما والد خطيبته فلقد رد إليه دبلته اليتيمة ، وقال لابنته بأنه سيكون خريج سجون ، فلن يدخل المحكمة قاضياً بل سجيناً مجرماً....وكانتْ النهاية هى وفاة أخته ضحية الفقر ...ضحية الأغنياء البخلاء ...ضحية الأطباء الجشعين الذين انتزع الله الرحمة من قلوبهم ، فغدوا عباداً للمال وحده !! بل ضحية مجتمعٍ رقد ضميره رقدته الأبدية فى سباتٍ عميقٍ لا أمل فى إيقاظه !! .....وذهبنا لتعزيته فى السجن ، فوجدناه جثةً هامدةً ....فلقد ودّع تلك الدنيا الظالمة ، وقطع شريان يده ، وكتب بدمائه على حائط السجن آخر كلمةٍ فى حياته وهى :
وداعاً يا دنيا !! ...
وإن عشتُ ماعشتُ فما أرانى أبكى مثل ذلك اليوم الذى مرتْ فيه الجثتان : جثة صديقى ، وجثة شقيقته ، وآه....آه...ثم آه...من مشهد تلك الأم الثكلى المكلومة ، رأيتُها وهى تفترش الأرض ، وتضع التراب على رأسها ، وتذكرتُ قولته وهو يبتسم ابتسامةً صفراء عندما قال لى :
لاتنخدع بابتسامتى ياصديقى ، فسيأتى يوم تكتب فيه للناس عن مأساتى...
لكننى هربتُ من أحزانى وأخذتنى سنواتٌ طويلةٌ ، تناسيتُ فيها ألم الفراق ، لكننى أبداً لم أنساه...
تنبهتُ من غفوتى ، وقد أنهتْ حبيبته تليفونها ، وقالت لى :
على فكرة إنى أبداً لم ولن أنسى صديقكَ ، فأنا لم ولن أتزوج أبداً ، ولن أغير الملابس السوداء حزناً عليه ، ووضعتُ همى كله فى الدراسة ، بعد أن حولتُ نفسى إلى كليةٍ أخرى غير الحقوق .....
ووجدتُنى عاجزاً عن الكلام معها ! .ودّعتُها بدموعى التى أبتْ أن تتوقف ، وخرجتُ من الجامعة ، فحانتْ منى التفاتة ليس إلى مكان حبيبتى القديمة ، بل إلى مكان لقاء صديقى بحبيبته....وتذكرتُ آخر ما خطتْه يداه على حائط السجن بدمائه
ودااااعا يا دنيا......
تمت بحمد الله - تعالى -